إذا استطاع المثقف أن يؤسس علاقة تجسير بين تجربته وبين الأشخاص الأصليين، فإن ذلك سيعود بالنفع على الثقافة والابتكار ومستقبل البلاد. لكنّ هذه العملية لا تعتمد عليه وحده، بل تتطلب أولًا ثقة الأشخاص الأصليين، حيث ينبغي أن تُعزز هذه الثقة خصوصية المثقفين وفرديتهم. منذ زمن بعيد، أدرك المثقفون الغربيون من العراق معاني الاغتراب، الذي يعدّ الابتعاد فيزيولوجيًا عن المكان، بينما الاغتراب نفسه ينجم عن وضع الفرد في البناء الاجتماعي مع وعيه لهذا الوضع وسلوكه كمغترب وفقًا للخيارات المتاحة.
اغتراب المثقفين
لقد عاش العديد من المثقفين العراقيين حالة اغتراب حتى داخل منازلهم قبل أن ينتقلوا إلى المنفى. يمكن أن يتجلى هذا الاغتراب في شكل اجتماعي، عسكري، أو عاطفي، مما ينتج عنه شعور بالعزلة الروحية، إلى جانب اغتراب مكاني ذو عمق مأساوي. بعض المثقفين العراقيين أمضوا أكثر من ثلث أعمارهم البيولوجية وأكثر من نصف فترات دراستهم الجامعية في ظروف من الغربة، ومن بينهم الجواهري ومظفر النواب وعبد الوهاب البياتي وآخرون، الذين عانوا من فقدان الهوية والانتماء وغياب الحريات الأساسية.
عزلة المثقفين
يمكن القول إن أغلب المثقفين عاشوا حالات اغتراب كبيرة وغربة، بالرغم من أن الأخيرة كانت أقل حدة. يتساءل الجواهري الكبير: ماذا كان يحدث في المنفى؟ هل كان هو مغزى الحرية أم عذاب الغربة؟ ومع أنه عاش سنوات صعبة من المنفى، إلا أن هذه التجربة منحته نظرة فريدة على الحرية. الكاتب أيضًا عاش في منفى موزع بين ثلاث قارات، حيث انتقل بين دور النشر والمنازل، وجمع العديد من الخبرات والمشاهدات المختلفة. ربما يكون الحنين للوطن قد ترافق معه، ولكنه ظل يحمل الوطن في قلبه، رغم الاغتراب الجسدي.
غالبًا ما عانى المثقفون من استلاب وقيود مرتبطة بالحرية مساندة للحروب والاحتلالات، وهو ما جعلهم يشعرون بالانفصال عن واقعهم. كانت الثقافة العراقية في الخارج تتآكل شيئًا فشيئًا، حيث تُحرم هذه النخب من حقوقها الأساسية. السؤال المطروح الآن هو: أين المثقفون من القضايا العامة؟ ليس الأمر مقتصرًا على الساحة العراقية أو العربية، بل هو سؤال عالمي يتعلق بدور النخب الثقافية الحديثة وتأثيرها في الحياة العامة. بعد أن كانت لهذه الأصوات تأثير كبير في الثلاثينيات والأربعينيات، فإن دورها قد تراجع بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة.
في الخمسينيات، كان المثقف العراقي يمثل قوة بارزة في المجالات الثقافية المختلفة، من الشعر والفنون التشكيلية إلى السياسة. كان المثقفون في تلك الفترة يجسدون حركة ثقافية جديدة، ومع مرور الوقت وتخلّيهم عن مركزيتهم، أصبحوا بعيدين عن التأثير الاجتماعي والسياسي. لذلك، من الضروري أن يقدم المثقف إبداعه ويعبر عن آراءه بشكل حر، بدلاً من الانحياز لآراء المؤسسات. المثقف يجب أن يكون حوارًا ناشطًا فيما يخص قضايا مجتمعه، فتلك هي مساحات التعزيز للسلام والتسامح والمساواة.
في الختام، من المهم أن يسعى المثقفون وراء المبادرات التي تعزز رسالتهم الثقافية، وأن يتواصلوا بشكل فعال مع مجتمعاتهم. يجب أن يكون لديهم الوعي بأن المثقف ليس مجرد متلقٍ، بل هو جزء لا يتجزأ من معركة الوجود والإبداع، وأن يستمر في مواجهة قضايا مجتمعه، من الأصغر حتى أعقدها. وبهذا، يمكن أن يُعزز دور المثقف كجزء من قوة اجتماعية حيوية تسعى لنشر قيم السلام والحقوق والعدل، مما يترك أثرًا إيجابيًا في المجتمع.
تعليقات