هندسة عين شمس: صرحٌ علمي شامخ
كأنما كان ذلك بالأمس. ما غادرتُ أروقة هذه الكلية الرائعة إلا منذ فترة بسيطة. الأشجار لم تتغير، بل أصبحت أكثر كثافة وجمالاً، بينما زادت المباني عراقة ووقاراً مع مرور الزمن. الوجوه تغيّرت، ولكن اسم «هندسة عين شمس» ظل عالياً ومشرقاً، وسيبقى بإذن الله. تلك الكلية التي أخرجت عمالقةً من رموز مصر والعالم، مثل علماء ووزراء ورجال أعمال، ومن بينهم شخصيات بارزة مثل هاني عازر وأيمن عاشور وأحمد زكي بدر. هؤلاء وآخرون كانوا على دكة هذه الكلية التي تظل رمزاً للتميّز والإنجاز.
ذكرى مهدت الطريق نحو المستقبل
علاقتي بهذه الكلية بدأت منذ سنوات طفولتي، عندما كان جدي المعماري صبري أبو حسين يتحدث إليّ عن ذكرياته فيها، مفسراً لي مشاريع قام بها في مصر وجدة. كان مشروع تخرجه هو «رفع القبة» للواجهة الأمامية، الذي رسَم فيه المساقط الأفقية والتفاصيل الدقيقة. وقد أهداني طقم التحبير الخاص به كمحفز. كنتُ كل يوم في طريق ذهابي إلى المدرسة، أنظر من نافذة الباص، وأشير بفخر إلى الكلية قائلاً لزملائي: «هذه ستكون كليتي في المستقبل!» وقد كنت أدخر مصروفي لأشتري أدوات هندسية مثل المساطر والشابلونات من المكتبات، لأجمعها ليوم دخولي للهندسة. لكن عندما وصلت إلى الكلية، لم أستخدم هذه الأدوات كون الزمن قد أحدث تغيرات في الوسائل والأدوات المساعدة، إذ أصبحت البرامج الحاسوبية هي الأداة الأساسية للدراسة.
في الآونة الأخيرة، تلقيت دعوة كريمة من الدكتور عمرو شعث، عميد كلية الهندسة، لحضور حفل تخريج دفعة 2025. في نهاية يونيو الماضي، شاركت في المؤتمر العلمي السنوي لكلية الهندسة بحضور الدكتور أيمن عاشور، وزير البحث العلمي، لتكريم الأساتذة الرواد من الدفعات السابقة، حيث كان الحفل في مدرج فلسطين المهيب، الذي شهد أول لقاء لي مع الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي. عندما دعوناه للاستماع إلى قصيدته الشهيرة «حراجي القط»، أبدى اهتماماً بشعر الطلاب، وكنت من بينهم، حيث قرأت قصيدة «طوباوية» أمامه، مما جعلني أشعر بسعادة غامرة وتفاؤل بشأن مستقبلي.
أما عن حفل التخرج، فقد أقيم في ملعب الكلية، حيث كانت أشعة الشمس تغرب وتضفي سحراً إضافياً على المباني القديمة. ارتدى الخريجون القبعات السوداء، وكانت الابتسامات تملأ وجوههم مزيجاً من فرحة التخرج وقلق المستقبل. احتفوا الأساتذة بأروابهم الأكاديمية وبالأوشحة الملونة وفقاً لرتبهم العلمية. كانت عائلات الخريجين تعبر عن فخرها وسعادتها بأبنائها الذين حققوا نجاحاتهم بعد ليالٍ من التعب والسهر. على الشاشة العملاقة، تم عرض صور الخريجين كأطفال وتلك التي التقطت لهم أثناء دراستهم، وكأن الساحر الزمن قد أظهر لنا مسيرتهم التحولية في تلك السنوات القليلة. المنصة امتلأت بالكلمات المشرقة من العميد ورئيس الجامعة ونقيب المهندسين، التي أكدت على أن الهندسة ليست مجرد إنشاء أبنية، بل هي فن وإبداع واستثمار للمستقبل. كما أُلقي قسم التخرج من قبل المهندس طارق النبراوي، ورددناه خلفه مع الخريجين الجدد. ثم تطايرت القبعات في السماء كأنها طيور تحلق، تعكس فرح اللحظة وتختصر سنين من الجهود والعطاء.
تعيد حفلات التخرج إلى الأذهان ذكريات جميلة تعكس البهجة والنجاح، نتذكر فيها دموع الأمهات وهنّ يحتفلن بفلذات أكبادهن، وملكيات تخريج كاب التخرج ولحظة نقل الشريط من اليمين إلى اليسار. بعد انتهاء الحفل، شعرت كأني أعود بفخر إلى ذكرياتي الخاصة بتخرجي من هندسة عين شمس قبل عقود. إذ تعلّمت من هذه الكلية أن العمارة ليست مجرد مواد، بل تحمل في طياتها ذاكرتنا وهويتنا، مما جعل هندسة عين شمس منارة تضيء طريق المستقبل.
Facebook:@NaootOfficial
تعليقات