رواتب خيالية في مواجهة معاناة شعب يحصي فتات الخبز!

كتب أ.د. محمد تركي بني سلامة – من كان يحتاج إلى تقرير “الإندبندنت” البريطانية ليكتشف الفجوة الكبيرة بين رواتب المسؤولين المرتفعة ومعاناة المواطنين الاقتصادية في الأردن؟ نحن الذين نعيش هذه المعاناة يوميًا، نشعر بالعواقب في كل فاتورة كهرباء، ونلمسها في أسواق الأسعار المرتفعة، ونسجلها على أصابعنا عندما نعد آخر ما تبقى في جيوبنا. يبدو أن “الخبر الصاعق” لا يصبح حقيقة إلا إذا جاء على لسان صحيفة أجنبية! التقرير أشار إلى أن بعض كبار المسؤولين يتقاضون رواتب وامتيازات تصل إلى 50 ألف دولار شهريًا، في بلد لا يتجاوز فيه الحد الأدنى للأجور 400 دولار، فيما يكاد متوسط دخل المواطن يصل إلى 600 دولار. مشهد غريب: قلة تعدّ الآلاف من الدولارات وهي تختار السيارة الفاخرة، بينما الغالبية تُحصي القروش لتغطية إيجار المنزل أو فاتورة الدواء! الحكومات تبرر ذلك بأنه “حق مكتسب لأصحاب الكفاءات والخبرات”. أي خبرات هذه؟ هل هي خبرة في تدوير المناصب بين الأصدقاء والأقارب؟ أم إنها خبرة في زيادة المديونية التي تجاوزت الخمسين مليار دولار؟ إذا كان هذا هو معيار الكفاءة، فكيف تُقاس الخيبة إذن؟

الأردن يعتمد اقتصاده على المساعدات والقروض، وتُدار موازنته السنوية في انتظار حوالات الخارج، بينما نجد في أعماق هذا الاقتصاد “صفوة” تعيش كما لو كانت في سويسرا، بينما المواطن يلهث خلف لقمة عيشه. وهنا يطرح السؤال: هل نعيش في دولة واحدة حقًا، أم في دولتين؛ واحدة للنخبة المترفة وأخرى للشعب الذي يكافح ويعاني؟ الصحيفة تحدثت عن “برجوازية جديدة” يصعب اختراقها. أما نحن فنراها طبقة محصنة، تعيش في أبراج زجاجية، محاطة بسياج من الامتيازات، بعيدة عن صرخات الناس في الأسواق، ولا تسمع أنين الأمهات على أبواب المستشفيات.

طبقة تتحدث عن “الإصلاح الاقتصادي” من داخل صالات مكيفة، بينما المواطن يحاول النجاة من الأعباء اليومية بلا مكيف ولا مظلة. الغريب أن الحكومات لا تزال تسوّق الرواية ذاتها: “الرواتب العالية تجذب الكفاءات”. الحقيقة المؤلمة أن هذه الرواتب لا تجذب إلا الغضب الشعبي، وتؤكد قناعة أن العدالة أصبحت نادرة الوجود. كيف لمجتمع يُكافئ قلة بهذه المبالغ الكبيرة ويترك الأغلبية على الهامش أن يتحدث عن المساواة أو تكافؤ الفرص؟ ما يُضحك ويُبكي في آن هو أن التقرير اعتبر ما يحدث “تناقضًا صارخًا”، وكأنها صدمة غير متوقعة! لكننا نسميها ببساطة “الحياة اليومية”.

كل صباح، ينطلق المسؤول بسيارته المعفاة من الجمارك، فيما يتوجه المواطن إلى عمله بوسيلة نقل متهالكة. وفي كل مساء، يضع الأول بطاقته الائتمانية على مائدة العشاء في مطعم فاخر، بينما يحسب الثاني ما تبقى له من الخبز. إن استمرار هذا الوضع لا يعني فقط فجوة اقتصادية، بل يزرع فقدان الثقة في الدولة ومؤسساتها. المواطن الذي يشعر بوجود “شعبين” في بلد واحد لن يرى في السياسات إلا أداة لإدامة الامتيازات، لا لتحسين الأوضاع. وهذه وصفة خطيرة لأي نظام يرغب في الاستقرار.

باختصار، لم يكن تقرير “الإندبندنت” اكتشافًا صادمًا بقدر ما كان إعادة طباعة للواقع الأردني اليومي. نحن نعرف الحقيقة قبل أن تُكتب في لندن. ولكن ربما ينبغي علينا التساؤل بصوت عالٍ: متى يصبح الإصلاح الاقتصادي حقيقة يعيشها المواطن، وليس مجرد عنوان في تقارير أجنبية؟ ومتى تُكسر تلك الطبقة الزجاجية التي تفصل النخبة عن الناس؟ حتى ذلك الحين، سيبقى المواطن يعد القروش في طوابير الخبز، بينما يعد المسؤولون الدولارات في أبراجهم… وتستمر القصة! في الأردن… المواطن يبحث عن دينار مفقود بين جيوبه ليغطي فاتورة الكهرباء، بينما المسؤول يفكر في استثمار جزء من راتبه الخيالي في دولة جديدة!

الأردن: رواتب فلكية وشعب يحصي فتات الخبز!

تجدر الإشارة إلى أن القضيّة المذكورة بشأن الأردن، التي تتعلق بالرواتب المرتفعة وواقع الشعب، قد نُشرت اليوم ( ).

الأردن: فوارق رواتب وتحديات اقتصادية

إن استمرارية هذا الوضع توضح الفجوة الاقتصادية المتزايدة وتبعياتها على المجتمع، حيث تتعمق الفوارق بين الأغنياء والفقراء وتزايد انعدام الثقة في القدرة على تحقيق العدالة الاجتماعية.