في قرية الريحان الوادعة، المخفية بين تلال جبال الباحة، بدأت قصة تحول عادي إلى إرث تعليمي استثنائي. كان الصبي الشاب، لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره، يقف أمام أقرانه بيد ممسكة بطبشور، يرسم الحروف على السبورة ويعلمها بإصرار يفوق سنه. لم يكن ذلك مجرد درس عابر، بل كان بداية لمسيرة أثرت على أجيال، حيث تحول ذلك الصبي إلى رمز للتعليم في المملكة العربية السعودية.
مسيرة الدكتور سعيد محمد المليص في الإصلاح التعليمي
من خلال تلك اللحظات الأولى، سار الدكتور سعيد محمد المليص نحو مستقبل مشرق، مترجمًا تجربته الأولى إلى عمل مستمر. انتقل من قريته إلى مدينة مكة، ثم امتدت رحلته العلمية إلى جامعات إنديانا في الولايات المتحدة، حيث نهل من المعرفة التربوية المتقدمة. لم يكن ذلك السفر مجرد رحلة جغرافية، بل كان تحولاً فكريًا جعله يعود إلى وطنه مزودًا بأفكار مبتكرة، يؤمن بأن الإصلاح الحقيقي يبدأ في الصفوف الدراسية. في وزارة المعارف، لم يقتصر دوره على الإدارة الروتينية؛ بل كان معلماً يشكل السياسات بروح التربية، متيماً بفكرة أن التعليم يبني الأمم من خلال تطوير العقول لا بناء المباني. كان يرى الوزارة كمدرسة كبيرة، حيث يلتقي النظري مع العملي، ويحول التحديات إلى فرص.
إسهامات الخبير التربوي
أما في مكتب التربية العربي لدول الخليج، فأصبح الدكتور المليص صوتاً للتكامل الإقليمي، حيث جمع بين الحوارات الدبلوماسية والرؤى التعليمية لتجاوز الحدود وإنشاء نظام تعليمي مشترك يعزز الوحدة. لم يقف أمره عند المناصب الرسمية؛ ففي مجلس الشورى، كان عضواً نشيطاً يناقش القرارات من زاوية المعلم، مستنداً إلى خبرته لتشكيل سياسات تعود بالنفع على الوطن. كتب مذكراته في كتاب “حتى لا أنسى”، الذي يمثل شهادة حية على عصره، حيث كان التعليم يواجه تحديات جسام، لكنه نهض بفضل جهود رجال مثل المليص، الذين نذروا حياتهم لترسيخ قيمة الحرف والمعرفة.
في كل مرحلة من مسيرته، ترك الدكتور المليص بصمة لا تمحى، سواء من خلال المبادرات التي أطلقها أو الجهد الذي بذله في أوقاته الطويلة في العمل. كان عصامياً بكل معنى الكلمة، يتقدم دائمًا كأول الحاضرين ويبقى آخر المنصرفين، مدفوعاً برؤية أن التعليم ليس وظيفة، بل رسالة تؤثر على مستقبل الأجيال. ساهم في تطوير البرامج التربوية الحديثة، مما جعل منه ركيزة أساسية في بناء التعليم السعودي المعاصر. لقد جسد في حياته الإيمان بأن الإصلاح يبدأ من الأساس، من الطفل في الصف وحتى القرار في الوزارة، ليصب في النهاية في خدمة الوطن والأمة. هذا النهج لم يكن مقتصراً على الجوانب النظرية، بل امتد إلى التطبيق العملي، حيث ركز على تدريب المعلمين والاستفادة من التجارب الدولية لتحسين جودة التعليم. إن قصة الدكتور المليص تذكرنا بأن النجاح الحقيقي يأتي من الإخلاص والمثابرة في سبيل هدف أكبر، حيث يظل التعليم رافعة للتغيير الإيجابي في المجتمع.
تعليقات