في قلب الشرق الأوسط، حيث كانت الأحداث السياسية تتفجر مثل البراكين، رسم جاسوس إسرائيلي يدعى إيلي كوهين قصة حياة مثيرة للإعجاب والجدل. هذا الرجل، الذي اختار لنفسه غطاءً كاملاً تحت اسم “كامل أمين ثابت”، نجح في اختراق أعمق طبقات النخبة السورية في دمشق. كان يتنقل بين الأوساط السياسية والعسكرية بمهارة فائقة، مما مكنه من التقرب من صناع القرار وأصحاب النفوذ. بل وصل الأمر إلى أن تم ترشيحه لمنصب رئيس الوزراء، في ظل فترة زمنية مليئة بالتوترات والانقلابات. لكن هذا النجاح الظاهري لم يدم طويلاً، إذ كشفت المخابرات المصرية سره، مما أدى إلى انهيار أسطورته تماماً.
كيف انهار أسطورة إيلي كوهين على يد القاهرة؟
مع مرور السنوات، أصبحت قصة إيلي كوهين رمزاً للعمليات السرية في الشرق الأوسط. كان كوهين قد بنى شبكة من العلاقات في دمشق، حيث جمع معلومات دقيقة عن الترتيبات العسكرية والسياسية السورية، مما أدى إلى تقديم تقارير قيمة لإسرائيل. ومع ذلك، فإن النهاية المأساوية جاءت على يد الجهاز الاستخباراتي المصري، الذي لعب دوراً حاسماً في كشفه. حسب بعض الروايات، تم اكتشافه بعد أن لاحظ أحد الضباط المصريين صورة له مع الرئيس السوري، مما أثار الشكوك وأدى إلى متابعة مكثفة انتهت باعتقاله وإعدامه في دمشق عام 1965. هذا الحدث لم يكن مجرد نهاية لحياة جاسوس، بل كان صفعة قوية لإسرائيل، التي فقدت أحد أبرز عملائها. وفي ذكرى مرور 60 عاماً على ذلك الإعدام، أعلنت إسرائيل عن استعادة أرشيف كوهين السري، الذي كان محتجزاً لعقود طويلة في خزائن الأمن السوري. هذا الأرشيف، الذي تم نقله في عملية سرية من قبل “الموساد” مع مساعدة من جانب أجنبي، يحتوي على آلاف الوثائق، بما في ذلك حوالي 2500 وثيقة، مفاتيح شقته في دمشق، جوازات سفر مزورة، صور شخصية، رسائل، وحتى وصيته الأخيرة.
في وصيته، التي كتبها قبل ساعات من إعدامه، عبر كوهين عن مشاعره الإنسانية تجاه عائلته. كتب مخاطباً زوجته ناديا: “سامحيني يا ناديا.. ربي أولادنا كويس، ولو حبيتي تتجوزي تاني.. ماشي، معنديش مشكلة بس خلى بالك من أمي ومتحرميش ولادي من احاجة.” هذه الكلمات تكشف جانباً إنسانياً من رجل كان يُنظر إليه كرمز للجاسوسية، لكنها أيضاً تبرز الثمن الباهظ الذي دفعه من أسرته. تم تسليم هذه الوصية لناديا بعد سنوات من الانتظار والغموض، مما يعكس الفجوة العميقة التي تركها غيابه.
سقوط الجاسوس الإسرائيلي في دمشق
سقوط إيلي كوهين لم يكن حدثاً عابراً، بل كان نقطة تحول في تاريخ الاستخبارات في المنطقة. بدأت القصة عندما نجح الجهاز المصري في رصد تحركاته، مستغلاً علاقاته الواسعة في دمشق. وفقاً لشهادات تاريخية، مثل تلك التي ذكرها الكاتب محمد حسنين هيكل، كان اكتشاف كوهين نتيجة لمراقبة دقيقة بدأت بتلك الصورة الشهيرة. هذا الاكتشاف أدى إلى سلسلة من التحقيقات التي كشفت هويته الحقيقية، مما أنهى مسيرته المثيرة. اليوم، بعد مرور ستة عقود، يبقى أرشيفه شاهداً على تلك الفترة، حيث يحتوي على تفاصيل دقيقة عن أعماله وتحركاته. هذه الوثائق ليست مجرد أرقام وأوراق، بل هي رواية حية للصراعات السياسية التي هزت الشرق الأوسط.
في النهاية، يعد سقوط كوهين درساً بليغاً عن مخاطر العمل الاستخباراتي، حيث دمج بين النجاح الفائق والفشل الذريع. أدى كشفه إلى إعادة تقييم الاستراتيجيات الإسرائيلية، وأكد على أهمية التنسيق بين الدول في مواجهة مثل هذه التحديات. مع ذلك، فإن التركيز يظل على الدور الحاسم الذي لعبه الجهاز المصري في فضح هذه الأسطورة، مما جعل القاهرة نقطة تحول في هذه القصة التاريخية. هذا الإرث يستمر في إلهام الكثيرين، سواء كانوا يرون في كوهين بطلاً أم عدواً، لكنه في النهاية يظل رمزاً للعصر الذي عاش فيه.
تعليقات