يوسف العنزي مقدّماً قراءته حول القصة
تحليل السرد
في ختام اليوم الأول من ورشة «تحليل السرد» التي نظمتها جمعية الأدب المهنية تحت إشراف الدكتور حسن النعمي، وتزامنًا مع خروجنا من القاعة، لفتت انتباهنا حقيبة نسائية تُركت خلفها. ومع محاولتنا معرفة من تكون صاحبتها، أطلقت دعابة بأن يكون فيها «مال». فأجابت إحدى الحاضرات بثقة أن الحقيبة مغلقة ولا يمكن فتحها. حينها علق الدكتور أحمد القيسي مبتسمًا بمقولة مفادها: «لا توجد شنطة بلا مفتاح».
تأويل النص
تذكرت في تلك اللحظة مقولة للإيطالي إمبرتو إيكو تفيد بأن النص لا يكشف عن نفسه من القراءة الأولى. بهذا الشكل، أظهرت لنا تلك اللحظة البسيطة في الورشة أن القراءة الأولى هي مجرد محاولة أولى لفتح الحقيبة، وأن الغوص في أعماق النص يشبه البحث عن المفتاح المناسب لاكتشاف كنوزه المخفية.
بعد الورشة، أصبح مفهوم القصة لدينا أكثر من مجرد تسلسل أحداث، بل يعتبر حركة وعي تتجلى داخل اللغة. لذا، يمكن قراءة قصة «بدون عنوان» كرمز للتحول المعرفي الذي يخوضه القارئ أو المتدرب عندما يخرج من منطقة راحته القرائية ويعيد تشكيل وعيه النقدي بمساعدة المعلم الذي يتقمص دور «الآلة» في القصة.
في هذا السياق، فإن حبة القمح تعتبر رمزًا للمتلقي قبل دخول دائرة الوعي النقدي؛ حيث تعيش الحبة داخل «السنبلة» وبالتالي تظل محكومة بحواجز الأفكار الموروثة، غير مدركة لوجود تعدد في زوايا القراءة.
عندما ظهر الدكتور النعمي الذي يمثل رمز «الآلة» في تفكيك الأفكار الراسخة، بدأت عملية تشكيل جديدة في الذهن، تمامًا كما تتخلص القصة من «القمصان الذهبية» التي تقيّدها.
تتمثل هذه العملية في كونها ليست عنفًا ماديًا، بل هي اهتزاز معرفي يسلب الألفة ليعيد تركيب البصيرة. وفي ظل أفكار النعمي وما تمكن من تقديمه، يصبح السرد أداة للكشف عن التحول، لا لتزيينه. فالقصة التي تبدأ بعبارة «لم أولد رغيف خبز» يمكن تفسيرها اليوم كصوت المتدرب الذي يعبر عن تجربته قائلاً: «لم أولد ناقدًا… بل كنت قارئًا مقلدًا».
بينما يتطور السرد، يتحول هذا الصوت من التلقي السلبي إلى المشاركة النشطة، ليدرك في النهاية أن كل قارئ يخبز نصه بطريقته الفريدة — فبعضهم ينتج خبزًا بسيطًا (القراءة الأولى البدائية)، والبعض الآخر يصنع كعكًا فاخرًا (القراءة الثانية المتعمقة). هذا التباين لا يعد تناقضًا، بل هو تنوع في زوايا الرؤية التي أشار إليها النعمي في محاضرته.
تتحرك القصة وفق منطق التحول «من الجمود إلى الحركة، ومن الانغلاق إلى التأويل»، وهنا تتجلى المعرفة بوصفها فعل سردي؛ فالآلة (المدرب / المفكر) لا تتلف الحبة بل تحررها من شكلها الأول لزيادة وعينا بماهية جديدة، مما يجعل كل تجربة سردية ولادة نقدية جديدة.
إن الطحن هو فعل معرفي وليس مادي؛ إنه قدرة على تمزيق القوالب التي اعتقدنا أنها خطوط حمراء. وفي نهاية القصة، وعندما نواجه العبارة: «بعضكم خبز للفقراء وبعضكم كعك للأغنياء»، تتضح دلالات التفاوت القرائي التي تناولها النعمي، إذ ليس جميع القراء متساوين في فهم النص، بل يصنعون معنى متنوعًا حسب وعيهم وخبراتهم وثقافاتهم، وهذا التنوع لا يُلغى بل يحتفى به؛ لأن النص الجيد، هو الذي يحتمل أكثر من قراءة ويكتمل مع الاختلاف.
من هذا المنطلق، تعتبر قصة «بدون عنوان» ليست قصة عن القمح فحسب، بل هي قصة حول النقد ذاته، تتبع رحلة الانتقال من السكون إلى الوعي، ومن النسخ إلى التأويل، ومن المظهر إلى الجوهر.
يمكننا القول بأن الدكتور حسن النعمي لم يخض في «تحليل السرد» فحسب، بل عمل على طحن مفاهيمنا القديمة ليمنحنا خبزًا نقديًا جديدًا نستطيع أن نتغذى به في قراءاتنا القادمة.

د. حسن النعمي خلال تقديمه ورشة عن السرد
قصة من دون عنوان
لم أولد رغيف خبز، فقد كنتُ بدايةً حبة قمح داخل سنبلة خضراء تتمايل مع نسائم الصيف، حتى جاءت آلة أخذتنا جميعًا إلى حيث خلعوا عنا قمصاننا الذهبية، ووضعونا في أوعية كبيرة. كنت مرهقًا في ذلك اليوم من كثرة الترحال وحزينًا لفقداني سنبلتي وقميصي الذهبي. استيقظت على بكاء حبات القمح من حولي، كل حبة تبحث عن أخواتها ولا تجد لهن سبيلاً، وفجأة وجدت نفسي أحتضن بعض الحبات ونمنا حتى جاء ضوء الشمس ويد حانية تشبه نسائم الفجر تقلبنا بين ذراعيها، تصاعدت التساؤلات بيننا عن هذه اليد، فأخبرتنا قمحة عجوز كانت ترقد في زاوية الوعاء:
- إنها نوارة، فتاة تعمل في جمع وتنقية القمح.
– ماذا يحدث لنا يا خالة؟
– ستخرجون من هنا إلى المطاحن حيث تصبحون دقيقاً، ثم يصبح بعضكم خبزاً للفقراء وبعضكم كعكاً للأغنياء.

تعليقات