التحديات الرمزية في الصراع العربي الإسرائيلي
منذ أن أقر زعماء إسرائيل الأوائل بأن مشروعهم القومي لن يكتمل إلا بالسيطرة الرمزية على أرض الميعاد، لم تغفُل أعينهم عن نقطة ضعفهم في الجغرافيا العربية، والتي ينظرون إليها كخارطة مقدسة بدلًا من كونها خريطة سياسية بحتة. اليوم، حين يتحدث متطرفون مثل “بن غفير” و”سموتريتش” بأسلوب التهديد تجاه السعودية، فإن خطابهم يتجاوز الدولة ليخاطب “المكان” الذي يمثل قلب مليار مسلم، حيث يلتقي الأفق بالأرض في مكة والمدينة.
الرمزية المقدسة في الصراع
السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا توجه إسرائيل تهديداتها نحو السعودية تحديدًا، رغم وجود علاقات متطورة مع عواصم عربية أخرى؟ الإجابة تتجاوز السياسة إلى العمق الفكري للصهيونية نفسها. ترى إسرائيل في السعودية “الرمز الأخير” الذي لا يزال صامدًا في الوعي الإسلامي، فمكة والمدينة ليستا مجرد حدود جغرافية، بل هما رمزان روحيان. إن وجودهما المستقل عن تل أبيب يعني أن العالم الإسلامي لا يزال يحتفظ بمركز مقاوم ضد التطبيع والهيمنة الغربية.
عندما يثير الشخصيات مثل بن غفير وسموتريتش التهديدات باستهداف الكعبة أو “استرجاع” المدينة المنورة، فإنهم يستمدون من اللاوعي الديني اليهودي سردية “الطرد من الجزيرة” بعد نبوءة النبي محمد، في محاولة منهم لتبرير رغباتهم التوسعية بما يعتبرونه “حقًا توراتيًا”. هذه اللغة تُفهم في ضوء عقيدة ترى في الوجود العربي الإسلامي تهديدًا وجوديًا لمشروع إسرائيل.
وعلى مستوى فلسفي، فإن الصراع هنا لا يقتصر فقط على الأرض، بل يمتد ليشمل المعاني. فبينما تنظر السعودية إلى الحرمين كرمز للتوحيد والاعتدال الروحي، تراها إسرائيل جغرافيا يمكن السيطرة عليها رمزيًا إذا ما أُجبرت المملكة على الدخول في دائرة التطبيع. تمثل السعودية بذلك آخر معقل يمكن أن يقلب ميزان القوة الرمزية في المنطقة، فقبولها أو رفضها للتطبيع يحدد حدودًا جديدة بين المقدس والمباح.
اليوم، تكاد إسرائيل تتعامل مع الجغرافيا كما يتعامل الساحر مع مرآته، حيث تسعى لرؤية نفسها في صورة كاملة لا تكتمل إلا بانهيار رمزية مكة والمدينة. من هنا، يتواصل خطاب اليمين الصهيوني في استحضار خيالات عدوانية تجاه السعودية، لأنهم يدركون أن كسر هذه الرمزية هو انتصارٌ على الإسلام بحد ذاته.
لكن التاريخ يُظهر أن الجغرافيا المقدسة لا تُخضعها التكنولوجيا ولا تُهينها الصواريخ. فإذا كانت القدس قد صمدت أمام الهجمات، فإن مكة والمدينة ستظل عصيتين على الطمس؛ إذ إنهما ليستا مدينتين عاديتين، بل مركزًا للروح الإنسانية التي تتحدى من يسعى لتحويل الإيمان إلى سلعة. تهديدات أمثال بن غفير وسموتريتش تمثل تلقائيةً لعقدة إسرائيلية مُتأصلة حيال الجغرافيا المقدسة، بينما إدراك السعودية للصراع لا ينحصر في الحدود، بل يتعلق برمزية البقاء ذاتها.

تعليقات