مدينة حرفيين لكل مدينة مصرية
عند تعرض سيارة لعطل في منطقة مزدحمة مثل القاهرة أو داخل الكمباوندات أو القرى السياحية، يبدأ صاحبها في رحلة بحث مضنية عن ورشة صيانة. تلك الورش، التي كانت يومًا جزءًا من نسيج المدن القديمة، أصبحت اليوم عبئًا على المناطق السكنية الحديثة، إذ تسببت في ضوضاء وعوادم وتلوث بصري وبيئي واختناق مروري مستمر.
حل بديل: مجمعات حرفية لتنظيم العمل
تُشكل آلاف السيارات التي تنتقل بين ورش السمكرة والكهرباء والميكانيكا داخل الأحياء ميدانًا فوضويًا يلتهم هدوء المدينة وجمالها. وهنا تأتي فكرة إنشاء مدن حرفيين متخصصة قرب المدن الكبرى، تجمع فيها جميع المهن والورش والخدمات ذات الصلة في بيئة منظمة ونظيفة. لقد عشت تجربة هذه الفكرة عندما شاركت في إنشاء مدينة الحرفيين بالغردقة، والتي كانت نموذجًا رائدًا للتخلص من التلوث والفوضى داخل المدينة.
تحدث معي الدكتور محمود شريف، وزير التنمية المحلية السابق، مشيدًا بفكرة إنشاء مدينة حرفيين لكل محافظة، مُؤكدًا على أهمية وجود مجلس أمناء يتابع ويسير كل مشروع جديد. إن الأمر يتجاوز عن كونه مجرد تنظيم إداري، بل هو رؤية عمرانية وتنموية شاملة، حيث يُمكن تقسيم المدينة إلى عدة مناطق: منطقة لصيانة السيارات، منطقة للنجارة والسباكة، وأخرى للحدادة والرخام، بالإضافة إلى مناطق خدمية تشمل مطاعم وكافيهات ومتاجر قطع غيار ومراكز تدريب ومرافق طبية صغيرة، مما يجعلها منظومة اقتصادية متكاملة بدلاً من مجرد تجمع للورش.
لا تساهم هذه الأشكال الجديدة من المدن في تخليص المدن الأصلية من الضوضاء فحسب، بل توفر أيضًا آلاف فرص العمل وتساهم في إنشاء تجمعات عمرانية جديدة تُحيط بالمدن الكبرى. فكلما توافرت الوظائف، تتابع معها الاستقرار السكاني، مما يساهم في ازدهار الخدمات السكنية والتجارية والتعليمية والصحية، ويؤدي إلى خلق حياة متكاملة مليئة بالإنتاج.
لقد أصبح الاستثمار العقاري في المباني السكنية يشهد تباطؤًا نتيجة التشبع النسبي في السوق وغياب الطلب الحقيقي في بعض المناطق. ومع ذلك، يوفر إنشاء مدن الحرفيين آفاق جديدة للاستثمار العقاري الإنتاجي القائم على النشاط والعمل بدلاً من المضاربة فقط. هذه المدن ليست هياكل ثابتة من الخرسانة، بل هي كيانات حيوية تجمع بين البنية الاقتصادية والعمرانية، وتعمل على توليد فرص عمل مستدامة للدولة.
فمفهوم “مدينة الحرفيين” يمثل نقلة حقيقية في بنية الاقتصاد المحلي ويعيد تنظيم العلاقة بين الحرف والمجتمع. كما يُمكّن من جذب استثمارات حقيقية من القطاعين العام والخاص في بنية تحتية تُنتج منفعة دائمة، مما يقضي على المضاربة الفارغة التي لا تحقق مردودًا تنمويًا حقيقياً. نحتاج إلى إعادة تعريف مفهوم التنمية، بحيث تكون قدرة اقتصادية تُبنى بتخصيص الموارد لدعم هذه التجمعات. إن مدن الحرفيين تمثل نواة للتنمية المستدامة، حيث تجمع بين التخطيط العلمي، والاعتبارات البيئية، والعوائد الاقتصادية والاجتماعية، مما يؤدي لتحقيق معادلة تنموية متوازنة: مدن نظيفة وهادئة، وورش منظمة وفعالة توفر فرص عمل طويلة الأمد وحياة حضارية آمنة.
إن تبني فكرة “مدينة حرفيين لكل مدينة مصرية” ليس مجرد ترف عمراني، بل هو ضرورة وطنية تساهم في التنمية المتكاملة. فكل مدينة جديدة تُقام تمثل خطوة فعالة نحو تنمية عادلة ومستدامة، تُعيد للمدن المصرية بهاءها وللحرفيين مكانتهم، وتحقق توازنًا اقتصاديًا وعمرانيًا للدولة.

تعليقات