العودة إلى منطق الدولة في الصراع بالغزة
في خضم الانقسام الإقليمي والتوترات الدولية المتعلقة بالحرب على غزة، برز الموقف السعودي، إلى جانب مواقف الدول المعتدلة، كعودة إلى الحكمة والعقلانية السياسية. لقد تغلبت الحكمة على الانفعالات، وأصبحت المصلحة العليا للشعوب هي الأساس، بعيداً عن المزايدات السياسية. البيان المشترك الذي صدر عن وزراء خارجية كل من السعودية والأردن والإمارات وتركيا وقطر ومصر وباكستان وإندونيسيا، تجسّد هذا التحول، حيث أعرب عن الترحيب بموقف حركة «حماس» واستعدادها للانخراط في ترتيبات سياسية جديدة لإدارة قطاع غزة. وقد أكد البيان على أولوية وقف الحرب وإنقاذ الأرواح، مما يعكس توازنًا بين الحقوق الإنسانية والاعتبارات السياسية.
تحول جديد في الاستجابة للصراع الفلسطيني
يثبت هذا الموقف تقدماً في الرؤية السياسية السعودية، حيث وضعت مصلحة الشعب الفلسطيني في صميم اهتماماتها. هذه النظرة تعكس ما تم وصفه سابقاً بـ”التسامي السياسي” الذي يوازن بين الثوابت والواقع، ويجمع بين التعاطف الإنساني والوعي السياسي. لم تعتمد المملكة على ردود الفعل العاطفية، بل اتبعت منهجاً عقلانياً يتفهم أن استمرار الحروب ستكون له آثار سلبية على فرص السلام، وأن القضية الفلسطينية ليست مجرد صراع مسلح، بل هي حق مشروع لشعب يسعى لحياة كريمة.
بهذا المعنى، نجحت السعودية في تعزيز تقليدها السياسي الذي يولي أهمية أكبر لمنطق الدولة مقارنة بالكيانات الأخرى. وقد تجلى ذلك في رفضها للانجرار إلى خطاب التحريض، محافظًة على موقعها كدولة مسؤولة تدرك أن الحلول الجزئية لا تكفي، بل يجب أن تكون هناك عملية شاملة تعيد الاعتبار للقانون الدولي. من هنا، أطلقت السعودية مبادرة لبناء تحالف دولي هدفه تنفيذ حل الدولتين، بمشاركة دول الاعتدال وعدد من الشركاء الدوليين، كخيار واقعي لإنهاء دورة العنف وضمان استقرار المنطقة.
هذا التحالف ليس مجرد تحرك دبلوماسي، بل يسعى لاستعادة الثقة بالنظام الدولي التي اهتزت بسبب الأحداث الأخيرة. تواجه المملكة معضلة انعدام التوازن في الساحة الدولية، حيث تؤكد على ضرورة وجود مقاربة جماعية تضمن الحقوق وتُخضع جميع الأطراف لمعادلة العدالة. لقد تشّكلت رغبة السعودية في توحيد الجهود العربية والإسلامية والدولية تحت مظلة مبادرة شاملة تُسهم في وقف العنف وفتح الممرات الإنسانية، تمهيدًا لمفاوضات جدية تسعى إلى إعادة تعريف الأمن الإقليمي على أنه أمن الإنسان، وليس فقط أمن الدولة.
في إطار التحديات الحالية، تبقى حالة من التفاؤل الحذر تسود المفاوضات. تشير المؤشرات الدولية إلى فرصة نادرة لتحريك الملف الفلسطيني، لكن تعقد الموقف داخل حركة «حماس» يمثل عقبة رئيسية. ومع أن الحركة أعربت عن موافقتها المبدئية على بعض التهدئة، إلا أنها لم تتعهد بخطوات محددة، في حين تواصل إسرائيل موقفها المتشدد. مع استمرار الضغوط الأمريكية التي تسعى لبلورة خطة شاملة، تبقى الأوضاع تتجه نحو خطر التمديد للأزمة أكثر من الحل. في هذا السياق، تسير الصين على نحو قوي لتحقيق ميزان أكبر داخل النظام العالمي، ما يعزز من أهمية السعودية كشريك قادر على تحقيق توازن بين القيم الأخلاقية والشرعية السياسية.
بينما تستمر السعودية في موقفها، فإنها تمثل صوت الدولة في زمن يتصاعد فيه صدى الميليشيات والأيديولوجيات. أثبتت الرياض أنها قادرة على تحويل التحديات إلى فرص، وأنها تتمتع بالقدرة على قياس الأداء السياسي في شرق أوسط يعاني من الاضطراب.

تعليقات