بغداد: من ثكنة عسكرية إلى عاصمة مدنية تبحث عن الأمن بعيدًا عن العسكرة

عسكرة المدن العراقية: واقع وآفاق جديدة

منذ عام 2003، باتت بغداد والمدن العراقية الكبرى تعيش تحت وطأة انتشار عسكري كثيف، إذ فرضت ظروف العنف والإرهاب عسكرة الشوارع عبر وضع نقاط التفتيش والحواجز. ورغم إعلان النصر على تنظيم “داعش” في 2017، إلا أن المنظومة الأمنية ظلت متعلقة بهذه البنية، حيث تحولت “عسكرة المدن” إلى جزء لا يتجزأ من الحياة اليومية. اليوم، ومع تحقيق استقرار نسبي، تعود لجنة الأمن والدفاع النيابية لتعلن أن هذه المرحلة أصبحت من الماضي. لكن التغيرات الرسمية تواجه واقعاً يومياً يُظهر أن بغداد لا تزال أشبه بـ”ثكنة مفتوحة” مقارنة بعاصمة مدنية.

تحول الفكر الأمني في العراق

وأوضح ياسر اسكندر، وهو عضو لجنة الأمن والدفاع النيابية، أن الظروف الأمنية المعقدة في السنوات الماضية استلزمت عسكرة المدن كوسيلة لتعزيز الأمن والطمأنينة من خلال الانتشار المكثف للقوات الأمنية، خاصة الجيش. ومع مرور الوقت، تُظهر التحليلات الأمنية تراجعاً ملحوظاً في معدلات الإرهاب، مما يدل على دخول العراق مرحلة جديدة من الاستقرار. ومع ذلك، بدت محاولات رسم صورة إيجابية عن الوضع الأمني غير كافية على أرض الواقع، حيث لا تزال مظاهر العسكرة واضحة للعيان.

تاريخياً، اعتمدت الحكومات العراقية على عسكرة المدن كاستجابة وحيدة لمواجهة التحديات الأمنية، سواء في فترة العنف الطائفي أو خلال مواجهة “داعش”، مما أدى إلى تحويل بغداد إلى مدينة محاطة بالحواجز. ورغم استئصال التهديدات الوجودية، لم يتم الانتقال إلى نماذج بديلة تعتمد على الحلول المدنية، مما خلّف فجوة في الثقة بين المواطنين والأجهزة الأمنية. وهذا ما عكسته شكاوى السكان في السنوات الأخيرة.

من جهة أخرى، أصبح التحدي الأمني اليوم يختلف حيث لم تعد تهديدات تنظيمات إرهابية فحسب، بل برزت مشكلات أخرى مثل المخدرات وانتشار السلاح. وتُظهر التقديرات أن هذه القضايا تتطلب استراتيجيات جديدة تعتمد على أجهزة استخباراتية مرنة وقادرة على الرصد والتحليل. فتجارب المدن الكبرى في دول شتى تشير إلى أن الاعتماد على الانتشار العسكري في المدن لم يعد فعالاً، مما يتطلب التفكير في بدائل تركز على تعزيز قدرات الدولة الاستخباراتية.

تعطي التجارب الإقليمية دروسًا قيمة. في الأردن، تم التركيز على المخابرات لمتابعة شبكات التهريب وتقليل مظاهر العسكرة. في تركيا، تعتمد السلطات على الشرطة المحلية في إدارة الأمن، بينما تحتفظ إيران بوجودٍ عسكري طفيف في المدن وترسل الوحدات المتخصصة لمواجهة قضايا المخدرات. أما التجارب العالمية، خاصة في أمريكا اللاتينية، فتُظهر أن الاعتماد على الجيش لم يجعل المدن أكثر أمانًا، بل زاد من التوتر بين السكان والأجهزة الأمنية.

في النهاية، يقف العراق عند مفترق طرق: إذ يجب على الدولة الانتقال من خطاب إنهاء عسكرة المدن إلى بناء نموذج أمني جديد يعتمد على الاستخبارات ومكافحة الجريمة والتهريب، مما يحول بغداد إلى بيئة حضرية آمنة، بعيداً عن سيطرة الحواجز العسكرية.