العراق: من ساحة الفوضى إلى رائد المبادرات

العراق ودوره الإقليمي الجديد

في قمة الدوحة الطارئة، ابتعد رئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني عن تكرار خطابات الإدانة المعتادة، بل جَعل من نفسه وبلاده العراق لاعبين رئيسيين. فقد قام ببناء مسيرته الداخلية على سياسة “التوازن” بين القوى المتنازعة، وحاول تطبيق هذا النهج في السياسة الخارجية، مما وضع العراق في موقع جديد لم يعهده منذ فترة طويلة: موقف الدولة التي تطالب وتبادر، وليس تلك التي تنتظر وتتلقى.

العراق كشريك استراتيجي

في كلمته خلال القمة، وخاصة بعد الهجوم الإسرائيلي على قيادات حركة “حماس”، أخذ السوداني هذه السياسة خطوة إلى الأمام. ولم يكتفِ بإدانته للاعتداء على قطر، بل أعلن دعمه لفلسطين، إلى جانب لبنان وسوريا واليمن، وقدم تصورًا استراتيجيًا يتضمن تحالفًا إسلاميًا واسعًا، ومجموعة اتصال عربية-إسلامية، وكذلك خريطة طريق لوقف إطلاق النار في غزة، متوجًا ببرنامج لإعادة الإعمار تحت إشراف دولي وعربي.

تلك اللغة تعكس رغبته الواضحة في إعادة تقديم العراق كدولة مؤثرة إقليميًا، لا مجرد ساحة لتصفية الحسابات. السوداني لا يأتي كـ “خطيب سياسي”، وإنما كـ “وسيط محتمل”. فبغداد لديها القدرة على التوازن بين القوى المتجاورة، وما تملكه من ثروات نفطية وعلاقات متوازنة مع أطراف متباينة يمنحها ميزات فريدة في التفاوض.

في خطابه، كان من اللافت إشارته إلى “الأمن الجماعي” كفكرة غير قابلة للتجزئة. إذ يسعى العراق، الذي عانى لعقود من التدخلات والانقسامات، إلى التأكيد على أن استقرار أي دولة في العالم العربي أو الإسلامي مرتبط بشكل وثيق باستقراره.

الرسالة واضحة: العراق، بعد أن تحمل عبء الضعف، يسعى الآن إلى أن يكون عنصرًا متوازنًا قادرًا على حماية المنظومة العربية والإسلامية. إلا أن التحدي الأكبر يكمن في كيفية التنفيذ، فالدعوة إلى تحالف إسلامي واسع تعد في نظر الكثيرين أمنيات أكثر من كونها مشاريع واقعية. ومع ذلك، يعد مجرد تقديم هذا الطرح من بغداد بعد سنوات من الانكفاء على الأزمات الداخلية نقطة تحوّل مهمة.

السوداني يبدو عازمًا على استغلال اللحظة الإقليمية الحالية، حيث تنسحب الولايات المتحدة من بعض أدوارها التقليدية، بينما تتحرك إيران لتقليل الضغوط عليها، في حين يسعى الخليج إلى موازنة علاقاته بين الولايات المتحدة والصين وروسيا. وفي ضوء هذا المشهد المعقد، تعود فلسطين إلى الواجهة مجددًا بسبب مأساة غزة، ويريد العراق أن يؤكد: “أنا هنا”.

المعادلة التي يسعى السوداني إلى تأسيسها تتمثل في نقل صورة “رجل التوازن” من الداخل إلى الخارج، مما قد يمنح العراق فرصة لريادة دور إقليمي جديد. إذا تمكن من إثبات قدرة العراق على تأدية هذا الدور، حتى بشكل تدريجي، فقد يُفتح الباب أمام مرحلة جديدة تستعيد فيها بغداد بعضًا من مكانتها المفقودة منذ عقود في العالم العربي والإسلامي.

السوداني يدرك أن التوازن ليس مجرد إنجاز، بل هو شرط أساسي للبقاء. وإذا استطاع تحويل هذا الشرط إلى منصة للمبادرة، فقد نشهد أمامنا زعيمًا عراقيًا يكتب فصلًا جديدًا.

ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام