استقرار جمهورية أفريقيا الوسطى
تعود جمهورية أفريقيا الوسطى اليوم لتكون محور النقاش في الساحة الدولية، حيث تسعى للبحث عن طريق جديد نحو الاستقرار والتنمية بعد عقود من الصراعات الأهلية والانقسامات العرقية والدينية التي أضعفت المجتمع ودمرت مؤسسات الدولة.
عهد جديد في الحكم
في وسط هذه التجربة، يبرز اسم الرئيس فوستان أرشانغ تواديرا، الأكاديمي الذي انتقل من أروقة الجامعة إلى قصر الرئاسة، حاملاً معه رؤية متجددة لمستقبل بلاده، رؤية تتجاوز الصراع التقليدي نحو إقامة نموذج لحكم قائم على المعرفة والحوار والانفتاح على الشراكات المتوازنة.
واجه تواديرا تحديات جسيمة عند دخوله إلى السلطة في بلد يعاني من مآسي عميقة. تعود جذور الحرب الأهلية إلى تراكمات طويلة من الطموحات السياسية المتناقضة، واستغلال الانقسامات العرقية والدينية، بالإضافة إلى الافتقار إلى الخبرة السياسية، مما جعل البلاد عرضة للانفجارات في كل مرحلة.
وحمّل الرئيس السابق بوزيزي جزءًا كبيرًا من المسؤولية، حيث حاول استغلال الفوضى الداخلية لبناء زعامة وهمية، مما زاد من حدة التوتر وأدخل البلاد في فوضى. خلفت تلك الحقبة جراحًا لا تزال تلقي بظلالها اليوم، لكنها أيضاً أظهرت الحاجة الملحة لقيادة هادئة ورزينة.
تجلت هذه الحاجة في شخصية تواديرا، الذي لا يزال يحتفظ بعادته في التوجه إلى الجامعة كل يوم سبت لتعليم طلابه، رغم انشغالاته في القصر. تعكس هذه الصورة طبيعة الرجل الذي يرى في العلم والمعرفة أدوات رئيسية لإعادة بناء الدولة، ويعتبر العلاقة مع الطلاب مرآة لعلاقة القائد بشعبه، وهي علاقة قائمة على التفاعل والتبادل.
إلا أن الرؤية لوحدها غير كافية ما لم تقترن بمهارات إدارة التوازنات. اختار تواديرا مسارًا براغماتيًا، حيث أمن نفسه وأمن البلاد بعلاقة مع روسيا التي توفر حماية دون تدخل في السياسة الداخلية، ما اعتبره كثيرون مفتاحاً لاستقرار نسبي. وبالمقابل، فتح أبواب التعاون مع دول الخليج العربي، مستفيداً من نماذج التنمية هناك، وراهن على أن هذه الشراكات ستساعد في تحسين وضع البلاد.
وبدأت النتائج تظهر، حيث استطاعت البلاد إنشاء محطة طاقة ضخمة بالتعاون مع شركة إماراتية، مما زاد من إنتاج الكهرباء بشكل ملحوظ. هذا ليس إنجازًا تقنيًا فحسب، بل علامة على تحول نوعي في بلد ظل يعتمد على طاقة أقل من الحاجة لفترة طويلة، ولا يشجع الاستثمار. اليوم، يركز تواديرا في حديثه عن مستقبل بلاده على المعادن النادرة والثروات الطبيعية، وهو مدرك أن الاستغلال الجيد لهذه الموارد قد يشكل قوة، أو يتحول إلى لعنة في حال وقوعها في براثن الصراعات والفساد.
تحتوي هذه الجمهورية الشبيهة بالحلم في قلب أفريقيا على ثروات طبيعية هائلة، فهي تحتل المركز الثاني بين أكبر منتجي الذهب في أفريقيا، ولديها احتياطات من الألماس وحدها تتجاوز المليار ونصف المليار دولار سنوياً، مع موارد وفيرة من اليورانيوم والحديد والنحاس والرصاص.
على مدى عقود، كانت هذه الثروات مصدراً للخراب، ضاعت في دوامات الفساد والنهب بينما يتقلب مستوى معيشة السكان في فقرٍ مدقع. هنا يسعى تواديرا إلى إحداث التغيير.
ما يميز تجربة تواديرا هو سعيه إلى تقديم مشروعه كجزء من قصة نجاح أكبر تخص القارة الأفريقية. فهو يدرك أن القارة اليوم أصبحت محط أنظار القوى الدولية، ويعتمد على الموقع الجغرافي لبلاده وثرواتها لتكون محور تنافس جيوسياسي. ومن هنا يسعى للتوازن بين الشركاء المتعددين: الروس للأمن، ودول الخليج للتنمية، والأوروبيين ممن لا يمكن تجاهلهم برغم تراجع نفوذهم.
لكن هناك تحديات قائمة. تحتاج التجربة السلمية السائدة إلى تعميمها في المناطق التي لم تصلها بعد. المفاوضات مع الجماعات المسلحة قد تنجح في إدماجها، لكنها قد تفشل إذا عادت الانقسامات القديمة للتصدر. كما أن الاعتماد على الثروات الطبيعية وحده غير كافٍ دون إصلاحات عميقة في المؤسسات، وبناء نظام شفاف لمكافحة الفساد وضمان العدالة في توزيع الموارد.
حالة أفريقيا الوسطى تعكس اليوم صورة مزدوجة: بلدٌ أنهكته الحروب ولكنه على أعتاب فرصة تاريخية للنمو. وقد نجح تواديرا حتى الآن في احتواء العنف وإعادة الأمل إلى شعبه، لكن التحدي المقبل يكمن في تحويل هذا الأمل إلى واقع عبر بناء دولة حديثة قادرة على إدارة مواردها وتحقيق وحدتها الداخلية.
تجربته تحمل دلالات عميقة على إمكانية الدمج بين المعرفة والسياسة، وبين الأمل والواقع. وفي قارة عانت من انفصال الحكام عن شعوبهم، تبدو أفريقيا الوسطى نموذجاً جديداً يخدم في إعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع على أسس جديدة.
نجح تواديرا حتى الآن في إخماد نار الصراعات، ويسعى بحماسة نحو تحقيق التنمية، واضعًا ثقته في مستقبل أفضل، حيث يشارك أفراح سكان القرى النائية الذين يستعدون لتلقي الكهرباء الجديدة التي ستغير حياتهم.
تعليقات