تحول الإدارة السعودية الحديثة
عند النظر إلى ملامح التحول في الإدارة السعودية اليوم، يتضح أنها ليست مجرد تحديث إداري أو تحسين تقني، بل هي نقلة نوعية في أسلوب اتخاذ القرار وفي العلاقات بين القيادات العليا والتنفيذية. تلعب الهوية الثقافية دورًا بارزًا في كل مشروع، ويظهر الذوق في كل اختيار.
هذا التحول لا يقاس فقط بالمشروعات الكبرى أو المؤشرات الاقتصادية أو البنية التحتية، بل يُلحظ أيضًا في لحظات عابرة، مثل محادثة أو كلمة أو إيماءة. إحدى تلك اللحظات تُلخِّص في رسالة خاصة قدّمها أمير منطقة عسير، الأمير تركي بن طلال، إلى ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان، وتعكس التغييرات العميقة في جوهر الدولة.
تجديد مفهوم اتخاذ القرار
قد تبدو المحادثة بسيطة في ظاهرها: عرض تصميم مشروع، تعليق من القائد، وإجابة من المدير التنفيذي. لكن ما وراء هذه الكلمات يكمن في بنية ذهنية جديدة تستدعي سؤالًا جوهريًا: كيف تتعامل الدولة السعودية الحديثة مع القرار؟ وماذا تعني كلمات بسيطة مثل: “يليق”، “مناسب”، و”نعتمده” عند صدورها من القيادة العليا؟
قبل بدء المناقشة، كانت الصورة موجودة، وهي شعار المملكة الرسمية: السيفان والنخلة. لا وجود لصورة شخصية أو مناسبة إعلامية، بل رمز الدولة نفسه. وهذا ليس عرضيًا، بل يعكس الرؤية العميقة لقائد اختار أن يكون تمثيله متمثلًا في الدولة، وليس في ذاته. فقد ألغى مفهوم التمركز حول الذات، وارتضى أن تكون صورته هي السعودية، فالشعار يكفي.
عندما استعرض الأمير تركي تصاميم مطار أبها الجديد، كانت أول كلمات ولي العهد: “هذا مطار يليق بأبها”. هنا، لا نتحدث عن مدح عابر، بل عن تقدير يجمع بين الذوق والسلطة. ولي العهد لا يمدح التصميم من منظور هندسي فحسب، بل يربط المشروع الهوية الثقافية للمدينة. أي أنه يريد مطارًا يعكس كرامة أبها وهويتها، وكلمة “يليق” هنا تتحول إلى معيار للتنفيذ.
ثم أجاب الأمير تركي بن طلال: “نعتمده طال عمرك”. تعكس هذه العبارة فهمًا عميقًا لكلمات القائد واستعدادًا فوريًا للانتقال من التقييم إلى التنفيذ، حيث لم ينتظر توجيهات إضافية بل ابتكر ردًا يعكس روح الرسالة.
قال ولي العهد كلمة واحدة بعدها: “مناسب”. رغم أنها كلمة قصيرة، إلا أنها تعادل ختم القرار في عقل الدولة الحديثة. في النظم التقليدية، تُثقل القرارات بالكلمات، لكن في الإدارة السيادية الناضجة، كلمة واحدة تكفي إذا خرجت من موقع السيادة. و”مناسب” هنا ليست مجرد رأي، بل تشير إلى الاعتماد وفتح باب التنفيذ.
إذا تأملنا تسلسل المحادثة، نرى أمامنا لحظة يتجسد فيها مفهوم الدولة عبر ثلاث طبقات: “يليق” تعني الوعي بالهوية، “نعتمده” تعبر عن التنفيذ السريع، و”مناسب” تشير إلى الاعتماد النهائي. هذا هو النموذج الذي يعتمد عليه بناء الدول الذكية: الحس قبل الحساب، الكلمات الجلية بدل التفاصيل المعقدة، والثقة بدل الشرح.
ليست كل الوثائق تُكتب بالحبر؛ بعض الوثائق تُتبادل شفويًا وتُفهم بالعقل. هذه هي الدولة التي يرسم معالمها ولي العهد: دولة تتسم بالهدوء، حيث تُحسب كل كلمة، وكل “مناسب” يبدأ بتحريك آلة العمل الصامت. وهكذا، في ثلاث جمل، تجلّت هوية الوطن واكتملت دائرة القرار.
تعليقات