قبل أن يغزو العالم الرقمي لحظاتنا بسرعة الضوء، كانت هناك مهنة تاريخية تجسد روح النقاء والإبداع في مصر، حيث يتفاعل الإنسان مع الفن بطريقة يدوية ساحرة. هذه المهنة، التي ترتبط بعمق بالتراث، تروي قصة من الزمن الذي كان فيه التصوير فناً يتطلب الصبر والمهارة، لا مجرد نقرة زر.
مصوراتي الميّه: فناء تقليدي نابض بالحياة
في عصرنا الحالي، حيث أصبح التقاط الصور أمراً فورياً بفضل الهواتف الذكية، يبدو من المستحيل تخيل عالم لم يكن فيه التصوير بهذه السهولة. لكن قبل هذا التحول التقني، كانت مهنة “مصوراتي الميّه” تمثل ركيزة أساسية في حياة المصريين. كان هؤلاء الرجال يحملون كاميراتهم الكبيرة وأدواتهم البسيطة، مثل جرادل الماء والمواد الحمضية، ليحولوا اللحظات إلى صور خالدة أمام أعين الزبائن في دقائق معدودة. تعود أصول هذه المهنة إلى العهود التاريخية، حين بدأت في عهد محمد علي باشا، ثم ازدهرت بشكل كبير خلال فترة حكم الخديوي إسماعيل. في تلك الأيام، كان المصورون يتنقلون بين القرى والبلدات والشواطئ، يلتقطون صوراً للأفراد والعائلات، محافظين على تفاصيل حية تجسد الفرح والحزن واليوميات العادية.
كانت هذه المهنة تجمع بين الإبداع والفائدة العملية، حيث كان “مصوراتي الميّه” يقومون بإعداد الصور في المكان نفسه، مما يمنح عملائهم شعوراً بالسحر والاندهاش. على سبيل المثال، كانوا يقيمون غالباً قرب إدارات الشرطة أو في الأسواق الشعبية، ليلبوا الطلب على صور الوثائق الرسمية مثل بطاقات الهوية أو التصاريح بسرعة. هذا الانتشار الواسع جعل خدماتهم متاحة للجميع، سواء كانوا مواطنين عاديين يريدون تذكاراً شخصياً أو حتى شخصيات عامة. بل إن بعض كبار الصحفيين، مثل محمد حسنين هيكل، لجأوا إلى هذه المهنة أثناء رحلاتهم، مستفيدين من قدرتها على توفير صور عالية الجودة في أوقات الطوارئ. هذه التجربة لم تكن مجرد خدمة تجارية؛ بل كانت تعبيراً عن حب حقيقي للفن، حيث كل صورة تروي قصة من خلال تفاصيلها الدقيقة والألوان الطبيعية.
فن التصوير الفوري: تراث لا يزول
مع مرور الزمن، شهدت تكنولوجيا التصوير تغييرات جذرية، بدءاً من الكاميرات الكهربائية، مروراً بالأجهزة الرقمية، ووصولاً إلى هيمنة الهواتف المحمولة التي جعلت عملية التقاط ومشاركة الصور أمراً آنياً. هذه التطورات ساهمت في تراجع انتشار مهنة “مصوراتي الميّه” من شوارع مصر، حيث أصبح من الصعب المنافسة مع السرعة والراحة التي تقدمها التقنية الحديثة. ومع ذلك، فإن هذه المهنة لم تنقرض تماماً؛ بل تظل حية في بعض المناطق النائية أو الأسواق التقليدية، حيث يجد بعض الأشخاص فيها متعة في الإحساس بالتراث والأصالة. هذا الاستمرار يذكرنا بأهمية الحفاظ على المهن اليدوية التي تربطنا بالماضي، فهي ليست مجرد وسيلة للرزق، بل جزء من الهوية الثقافية للمجتمع.
في الواقع، يمكن القول إن “مصوراتي الميّه” يمثلون جسراً بين العالم القديم والحديث، حيث يواصلون نقل قصص الناس من خلال صورهم البسيطة لكنها مفعمة بالعمق. هذا الفن الفوري، الذي يعتمد على المهارة اليدوية والمواد البدائية، يذكرنا بأن التقدم التقني لا يعني دائماً فقدان الجمال، بل يفتح الباب للحفاظ على التقاليد. في ظل عالمنا السريع اليوم، يبقى لهذه المهنة دوراً في تعليم الأجيال الشابة أهمية الإبداع الحقيقي والانضباط، مما يجعلها جزءاً لا يتجزأ من التراث المصري. لذا، رغم التحديات، فإن “مصوراتي الميّه” يستمرون في الحياة، كنبض يذكرنا بزمن النقاء الذي لا ينسى. هذه المهنة ليست مجرد ذكرى، بل رسالة حية عن كيف يمكن للفن أن يتكيف ويبقى، محافظاً على أصالته في وجه الزمن.
تعليقات